(*)1-المسلم ينظر إلى ما لله تعالى عليه من منن لا تحصى، ونعم لا تعد اكتنفته من ساعة علوقه نطفة في رحم أمه، وتسايره إلى أن يلقى ربه عز وجل فيشكر الله تعالى عليها بلسانه بحمده والثناء عليه بما هو أهله، وبجوارحه بتسخيرها في طاعته، فيكون هذا أدباً منه مع الله سبحانه وتعالى؛ إذ ليس من الأدب في شيء كفران النعم، وجحود فضل المنعم، والتنكر له ولإحسانه وإنعامه، والله سبحانه يقول: "وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ"([1]) ويقول سبحانه "وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا"([2]) ويقول جل جلاله "فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ"([3]).
2-وينظر المسلم إلى علمه تعالى به واطلاعه على جميع أحواله فيمتلئ قلبه منه مهابة ونفسه له وقاراً وتعظيماً، فيخجل من معصيته، ويستحي من مخالفته، والخروج عن طاعته. فيكون هذا أدباً منه مع الله تعالى؛ إذ ليس من الأدب في شيء أن يجاهر العبد سيده بالمعاصي، أو يقابله بالقبائح والرذائل وهو يشهده وينظر إليه. قال تعالى: "مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ للهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا"([4]) وقال: "وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ"([5]) وقال: "وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ"([6]).
3-وينظر المسلم إليه تعالى وقد قدر عليه، وأخذ بناصيته، وأنه لا مفر له ولا مهرب، ولا منجا، ولا ملجأ منه إلا إليه، فيفر إليه تعالى ويطرح بين يديه، ويفوض أمره إليه، ويتوكل عليه، فيكون هذا أدباً منه مع ربه وخالقه.
إذ ليس من الأدب في شيء الفرار ممن لا مفر منه، ولا الاعتماد على من لا قدرة له، ولا الاتكال على من لا حول ولا قوة له. قال تعالى: "مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا"([7]) وقال عز وجل: "فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ"([8]) وقال: "وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ"([9]).
4-وينظر المسلم إلى ألطاف الله تعالى به في جميع أموره، وإلى رحمته له ولسائر خلقه فيطمع في المزيد من ذلك، فيتضرع إليه بخالص الضراعة والدعاء، ويتوسل إليه بطيب القول، وصالح العمل فيكون هذا أدباً من مع الله مولاه إذ ليس من الأدب في شيء اليأس من المزيد من رحمة وسعت كل شيء، ولا القنوط من إحسان قد عم البرايا، وألطاف قد انتظمت الوجود. قال تعالى: "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ"([10]). وقال: "اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ"([11]). وقال: "وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللهِ"([12]). وقال: "لاَ تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللهِ"([13]).
5- وينظر المسلم إلى شدة بطش ربه، وإلى قوة انتقامه، وإلى سرعة حسابه فيتقيه بطاعته، ويتوقاه بعدم معصيته فيكون هذا أدباً منه مع الله؛ إذ ليس من الأدب عند ذوي الألباب أن يتعرض بالمعصية والظلم العبد الضعيف العاجز للرب العزيز القادر، والقوي القاهر وهو يقول: "وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن والٍ"([14])، ويقول: "إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ"([15])، ويقول: "وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ"([16]).
6-وينظر المسلم إلى الله عز وجل عند معصيته، والخروج عن طاعته، وكأن وعيده قد تناوله، وعذابه قد حل بساحته، كما ينظر إليه تعالى عند طاعته، واتباع شريعته وكأن وعده قد صدقه له، وكأن حلة رضاه قد خلعها عليه فيكون هذا من المسلم حسن ظن بالله، ومن الأدب حسن الظن بالله؛ إذ ليس من الأدب أن يسيء المرء ظنه بالله فيعصيه ويخرج عن طاعته، ويظن أنه غير مطلع عليه، ولا مؤاخذ له على ذنبه، وهو يقول: "وَلَكِن ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ"([17])، كما أنه ليس من الأدب مع الله أن يتقيه المرء ويعيطه ويظن أنه غير مجازيه بحسن عمله، ولا هو قابل منه طاعته وعبادته، وهو عز وجل يقول: "وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ"([18]) ويقول سبحانه: "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ"([19]) ويقول تعالى: "مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ"([20
وخلاصة القول: أن شكر المسلم ربه على نعمه، وحياءه منه تعالى عند الميل على معصيته، وصدق الإنابة إليه، والتوكل عليه ورجاء رحمته، والخوف من نقمته وحسن الظن به في إنجاز وعده، وإنفاذ وعيده فيمن شاء من عباده؛ هو أدبه مع الله، وبقدر تمسكه به ومحافظته عليه تعلو درجته، ويرتفع مقامه وتسمو مكانته، وتعظم كرامته فيصبح من أهل ولاية الله ورعايته، ومحط رحمته ومنزل نعمته.
وهذا أقصى ما يطلبه المسلم ويتمناه طول الحياة.
اللهم ارزقنا ولايتك، ولا تحرمنا رعايتك، واجعلنا لديك من المقربين، يا الله يا رب العالمين.
---------------------
*) منهاج المسلم لأبي بكر الجزائري ص83 – 85.
([1]) سورة النحل من آية 53.
([2]) سورة إبراهيم من آية 34 وسورة النحل آية 18.
([3]) سورة البقرة آية 152.
([4]) سورة نوح آية 13 ، 14.
([5]) سورة النحل آية 19.
([6]) سورة يونس آية 61.
([7]) سورة هود آية 56.
([8]) سورة الذاريات آية 50.
([9]) سورة المائدة آية 23.
([10]) سورة الأعراف من آية 156.
([11]) سورة الشورى من آية 19.
([12]) سورة يوسف من آية 87.
([13]) سورة الزمر من آية 53.
([14]) سورة الرعد من آية 11.
([15]) سورة البروج آية 12.
([16]) سورة آل عمران من آية 4.
([17]) سورة فصلت آية 22 ، 23.
([18]) سورة النور آية 52.
([19]) سورة النحل آية 97.
([20]) سورة الأنعام آية 160.