اعلم أن هذه المسألة أعظم المسائل على الإطلاق وأكبرها وأفضلها وأوجبها وأنفعها وأوضحها؛ وعليها اتفق جميع الكتب المنزلة وجميع الرسل، وهي أول وأهم ما دعت إليه الرسل أممهم، وأول ما يدعون قومهم يقولون "اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ" ويذكرون لهم من أسمائه وأوصافه ونعمه وآلائه وألطافه ما به يعرفون ربهم ويخضعون له ويعبدونه والقرآن العظيم من أوله إلى آخره يبين هذه المسألة، ويذكر لها البراهين المتنوعة، ويصرف لها الآيات، والسنة كذلك.
وليس القصد في هذا الفصل ذكر الأدلة النقلية عليها، فإنها واضحة جلية متقررة عند الخواص والعوام، وهي وحدها كافية وافية بالمقصود معرفة بالله جملة وتفصيلاً، ولكن نريد أن نشير إشارة يسيرة إلى أدلتها وبراهينها العقلية التي يخضع لها كل عاقل منصف، وينكرها كل مستكبر مكابر مباهت، وهذه المسألة أوضح وأظهر من أن يحتج لها وتذكر براهينها، ولكن كلما عرف المؤمن براهينها قويت في قلبه وازداد إيمانه ونمى إيقانه وحمد الله على هذه النعمة التي هي أعظم المنن وأجلها، ولهذا قالت الرسل عليهم السلام لأممهم: "أَفِي اللهِ شَكٌّ". فاستفهموهم استفهام تقرير وأنه متقرر في قلوب جميع العقلاء، الاعتراف بالله وبربوبيته وتوحيده.
اعلم رحمك الله أنك إذا نظرت إلى هذا العالم العلوي والسفلي وما أودع فيه من المخلوقات المتنوعة، والحوادث المتجددة، فتأمل تأملاً صحيحاً أن الأمور الممكن تقسيمها في العقل ثلاثة:
1-إما أن توجد هذه المخلوقات بنفسها من غير محدث ولا خالق فهذا محال ممتنع يجزم العقل ببطلانه ضرورة، ويعلم يقيناً أن من ظن ذلك فهو إلى الجنون أقرب منه إلى العقل، لأن كل من له عقل يعرف أنه لا يمكن أن يوجد شيء من غير موجد ولا محدث.
2-وإما أن تكون هي المحدثة لنفسها الخالقة لها، فهذا أيضاً محال ممتنع بضرورة العقل، كل عاقل يجزم أن الشيء لا يحدث نفسه، وإذا بطل هذان القسمان عقلاً وفطرة تعين القسم الثالث.
3-وهو أن هذه المخلوقات والحوادث لها خالق خلقها ومحدث أحدثها وهو الرب العظيم الخالق لكل شيء، المتصرف في كل شيء، المدبر للأمور كلها، ولهذا نبه الله على هذا التقسيم العقلي الواضح لكل عقل: "أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لاَّ يُوقِنُونَ" الطور آية 35 ، 36، فالمخلوق لابد له من خالق، والأثر لابد له من مؤثر، والمحدث لابد له من محدث، والموجد لابد له من موجد، والمصنوع لابد له من صانع، والمفعول لابد له من فاعل.
هذه قضايا بديهية جلية يشترك في العلم بها جميع العقلاء، وهي أعظم القضايا العقلية. فمن ارتاب فيها أو شك في دلالتها فقد برهن على اختلال عقله وضلاله.
تفكر في نفسك وانظر في مبدء خلقك من نطفة إلى علقة إلى مضغة حتى صرت بشراً كامل الأعضاء الظاهرة والباطنة. أما يضطرك هذا النظر إلى الاعتراف بالرب القادر على كل شيء، العليم الذي أحاط علمه بكل شيء، الحكيم في كل ما خلقه وصنعه، فلو اجتمع الخلق كلهم على النطفة التي جعلها الله مبدأ خلقك على أن ينقلوها في تلك الأطوار المتنوعة ويحفظوها في ذلك القرار المكين، ويجعلوا لها سمعاً وبصراً وعقلاً وقوى باطنة وظاهرة، وينموها هذه التنمية العجيبة. ويركبوها هذا التركيب المنظم، ويرتبوا الأعضاء هذا الترتيب المحكم، لو اجتمعوا على ذلك فهل في علومهم، وهل في اقتدارهم، وهل في استطاعتهم الوصول إلى ذلك؟ فهذا نظر يوصلك إلى الاعتراف بعظمة الله واقتداره والخضوع له والتصديق بكتبه ورسله، وهو دليل وبرهان عقلي وفطري اضطرت فيه الفطر إلى معرفة ربها وعبوديته.
تأمل في حفظ الله للسموات والأرض وما فيهما من العوالم وفي إبقائها وإمدادها بكل ما تحتاج إليه في بقائها من الأسباب المتنوعة، أما يدلك ذلك على كمال الرب وكمال قوميته وربوبيته؟ وقد نبه تعالى على ذلك بقوله "وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ" سورة الروم آية 25 ،"إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولاَ وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا" سورة فاطر آية 41.
تدبر يا أخي في هذا الفلك الدوار، وفي تعاقب الليل والنهار، وفي تصريف الأوقات بفصولها ومنافعها، وفي كمال انتظامها لمصالح الخلق التي لا يمكن إحصاؤها، هل ذلك صدفة الطبيعة؟ وهل هذا حصل اتفاقاً؟ أم الذي خلق ذلك ودبره ذلك التدبير المتقن: هو الذي أحسن كل شيء خلقه، وصنع الله الذي أتقن كل شيء.
وانظر هداك الله إلى أنه أعطى كل شيء خلقه اللائق به، ثم هدى كل مخلوق إلى مصالحه وحوائجه وضروراته، حتى البهائم العجم صغيرها وكبيرها قد ألهمها وهداها لكل أمر فيه نفعها، ويسر لها أرزاقها وأقواتها فمن نظر في هدايته العامة، وبثه في كل مخلوق إلهاماً عجيباً يهتدي به إلى منافعه وضروراته، علم بذلك عنايته العظيمة، وعلم أنه الرب لكل مربوب الخالق لكل مخلوق، الذي علم المخلوقات وأعطاها من الأذهان ما يصلحها ويدفع عنها المضار، وذلك برهان عقلي عظيم على وحدانية الله وكماله، ولذلك لما أنكر فرعون رب العالمين وقال: "فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى " طه آية 49 ، 50 فاستدل عليه بهذا البرهان المشاهد لكل أحد؛ فهل في طبيعة الحيوانات كلها هذه الهداية إلى مصالحها التي لا تحصى أنواعها، وحنوها على أولادها، وقيامها بهم حتى يستقلوا بأنفسهم؟ وهل هذا الحنان والرحمة إلا من أكبر الأدلة على عظمته وسعة رحمته التي وسعت كل شيء؟.
ثم انظر رحمك الله إلى سعة رحمة الله التي ملأت أقطار العالم، وشملت كل مخلوق في كل أحواله، برحمته أوجد المخلوقات، وبرحمته حفظها وأمدها بكل ما تحتاج إليه، وأسبغ عليها النعم الظاهرة والباطنة التي لا يمكن مخلوقاً أن يخلو منها طرفة عين، وهي متنوعة عليه من كل وجه نعم العلم والتعليم لأمور الدين والدنيا، ونعم العافية للأبدان عموماً وللأعضاء كلها على وجه الخصوص، ونعم الأرزاق ونعم الأولاد والأتباع، ونعم الحروث والزروع والثمار، ونعم المواشي وأصناف الأمتعة، ونعم الدور والقصور، ونعم اللذات والحبور النعم التي فيها جلب المنافع كلها، والنعم التي فيها دفع المضار كلها، تدل أكبر دلالة على وحدانية مسديها والمنعم بها، وعلى وجوب شكره والإخلاص له "أَفَمَن يَّخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ" أفمن منه النعم كلها كمن هو فقير محتاج، مضطر؟ والله أعلم.
ثم انظر أحوال المضطرين الواقعين في المهالك والمشرفين على الأخطار والبائسين من فقرهم المفظع أو مرضهم الموجع، وكيف تضطرهم الضرورات وتلجئهم الحاجات إلى ربهم وإلههم داعين ومفتقرين، وسائلين له مستعطين فيجيب دعواتهم، ويكشف كرباتهم، ويرفع ضروراتهم، أليس في هذا أكبر برهان على وحدانيته وسعة علمه، وشمول رحمته، وكمال عطفه، ودقيق لطفه، "أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ" سورة النمل آية 62 ، "فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ " سورة العنكبوت آية 65.
وهذا قد شاهده الخليقة ورأوا بأعينهم من الوقائع ما لا يعد ولا يحصى وهذا يضطرهم إلى الاعتراف بالله وبوحدانيته فانظر إلى حالة المضطرين إذا كربتهم الشدائد كيف تجد قلوبهم متعلقة بالله، وألسنتهم ملحة في سؤاله وأفئدتهم مستشرفة لنواله، لا تلتفت عن الله يمنة ولا يسرة لعلمها الضروري أنه كاشف الشدائد، جالب الخير والفوائد، لا ملجأ منه إلا إليه، ولا معول للخليقة في جميع أمورها إلا عليه، فهل هذه الأمور إلا لأن الخليقة مفطورة على الاعتراف بوحدانية ربها؟ وأنه النافع الضار، وأن ملكوت كل شيء بيديه؟ إلا من فسدت فطرته بالعقائد الفاسدة والإرادات السيئة.
وانظر إلى فقر الخلائق كلهم على الله في كل شيء، فقراء إليه في الخلق والإيجاد، وفقراء إليه في البقاء والرزق والإمداد، وفقراء إليه في جلب المنافع وفي دفع المضار، فهم يسألون الله بلسان المقال، ولسان الحال، "يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ" فيعطيهم مطالبهم، ويسعفهم في كل مآربهم، إن رغبوا لم يرغبوا إلا إليه، وإن مستهم الضراء لم يلجأوا إلا إليه، فكم كشف الضر والكروب، وكم جبر الكسير ويسر المطلوب، وكم أغاث ملهوفاً، وكم أنقذ هالكاً، ففقرهم إليه في كل الأحوال ظاهر مشاهد، وغناه عنهم في جميع الأمور لا ينكره إلا مكابر جاحد.
ومن براهين وحدانية الباري وربوبيته إجابته للدعوات في جميع الأوقات، فلا يحصي الخلق ما يعطيه السائلين، وما يجيب به أدعية الداعين من بر وفاجر، ومسلم وكافر تحصل المطالب الكثيرة، ولا يعرفون لها شيئاً من الأسباب، سوى الدعاء والطمع في فضل الله، والرجاء لرحمته وهذا برهان مشاهد محسوس، لا ينكره إلا مباهت مكابر، يدعونه في مطالب دينهم فيجيبهم، وفي مطالب دنياهم فيجيبهم "فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآَخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ * وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا" (سورة البقرة آية 200 – 202).
ومن براهين وجود الله ووحدانيته وربوبيته ما يجريه الله على أيدي أنبيائه من خوارق الآيات والمعجزات والبراهين القاطعات، وما يكرمهم به في الدنيا وينصرهم، ويجعل لهم العواقب الحميدة، ويخذل أعداءهم ويعذبهم بأصناف العذاب وهذا قد تواتر تواتراً لا يتواتر شيء مثله، وكل أحد يعرف ذلك. وآيات الأنبياء ومعجزاتهم وكرامات الله لهم نقلتها القرون والأجيال وصارت أعظم من برهان الشمس والقمر، وهي كلها براهين على ربوبية من أرسلهم وعظمة سلطانه وكمال قدرته وسعة علمه وحكمته، وما ينكرها إلا كل متكبر جبار.
ون أعظم براهين وحدانيته ما أنزله على أنبيائه عموماً من الكتب والشرائع العظيمة التي فيها صلاح الخلق وبها استقام دينهم وصلحت دنياهم وخصوصاً هذا القرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم خاتمهم وإمامهم، وفيه من البراهين والآيات ما لا يعبر عنه المعبرون، ولا يقدر أن يصفه الواصفون وآياته قائمة في جميع الأوقات متحدية للخلق كلهم على اختلاف أصنافهم، وقد تبين عجزهم ووضح غيهم، " سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ " سورة فصلت آية 53، "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ" سورة النحل آية 89.
فمن نظر إلى ما احتوى عليه القرآن من الأخبار الصادقة والأحكام العادلة والشرائع المحكمة والصلاح العام وجلب المنافع الدينية والدنيوية ودفع المضار والخير العظيم، اضطر إلى الاعتراف بأنه تنزيل من حكيم حميد، ورب كريم.
وكذلك من نظر إلى ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الشرع الكامل والدين القويم والصراط المستقيم في كل شئونه، اضطره بعض ذلك، فكيف بكله؟ إلى الاعتراف بوحدانية الله وأن الذي شرعه هو الرب العظيم الحكيم في شرعه ودينه، كما هو حكيم في خلقه وتقديره.
ومن براهين وحدانية الله أن الفطر والعقول مضطرة إلى معرفتها بباريها والاعتراف بوحدانيته، فإن الخلق مفطورون على جلب المنافع ودفع المضار؛ ومن المعلوم لكل عاقل أن حاجة النفوس إلى خالقها وإلهها أعظم من جميع الحاجات، وضروراتها إليه تفوق كل الضرورات، فهي مضطرة إلى علمها بأنه خالقها وحده، مالكها وحده ومبقيها وحده، وممدها بمنافعها وحده، "فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ" سورة الروم آية 30، ولم يخرج عن هذه الفطرة إلا من اجتالتهم الشياطين وحولت فطرهم وغيرتها بالعقائد الفاسدة والخيالات الضالة والآراء الخبيثة والنظريات الخاطئة، فلو خلوا وفطرهم لم يميلوا لغير ربهم، منيبين إليه في جلب المنافع ودفع المضار ومنيبين إليه في التأله والانكسار، قال صلى الله عليه وسلم : "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ حتى تكونوا أنتم تجدعونها" (رواه البخاري ومسلم وغيرهما).
ومن براهين وحدانيته وكرمه ما هو مشهور في حوادث لا تعد ولا تحصى، من إكرام الله تعالى للواصلين لأرحامهم، وخلفه العاجل على المحسنين على المضطرين، والمنفقين لأجله على المحتاجين، وتعويضه لهم وفتحه لهم أبواباً وأسباباً وطرقاً بسبب ذلك الإحسان الذي له الموقع الطيب، وقد علم الخالق أن ذلك سببه تلك الأعمال الصالحة والمقدمات الحسنة، ألا يدلك ذلك على أن الله قائم على كل نفس بما كسبت، وأن هذا جزاء معجل وثواب حاضر، نموذج لثواب الآخرة؟ وأفراد ذلك ونوعه لا تدخل تحت الحصر، وهذا أمر لا يمتري فيه أحد قد رأى الناس من هذا عجائب.
ونظير هذا البرهان العقوبات التي يعجلها الله للباغين والظالمين والمجرمين بحسب جرائمهم عقوبات يشاهدها الناس رأي العين ويعلمون ويتيقنون أن ذلك جزاء الجرائم. فمن تأمل وسمع الوقائع وأيام الله في الخلق وعلم ارتباطها بأسبابها الحسنة أو السيئة، علم بذلك وحدانية الله وربوبيته وكمال عدله وسعة فضله، فضلاً عن وجوده ووجوب وجوده، فإن كل ما دل على شيء من أوصافه أو أفعاله فإنه يتضمن إثبات ذاته ووجوب وجوده، وعلم استناد العوامل العلوية والسفلي إليه في إيجادها وإبقائها وحفظها وإمدادها وجميع أحوالها والله أعلم.
واعلم أن طرق معرفة الله واسعة جداً بحسب حاجة الخلق وضرورتهم إليها، وكل يعبر عنها بعبارات إما كلية وإما جزئية بحسب الحال التي تحضره وبحسب الأمور التي تغلب عليه، وإلا فكل ما خطر في القلوب وشاهدته الأبصار وأدركته المشاعر، وكل متحرك وساكن أدلة وبراهين على وحدانية الله.
وفي كـل شـيء لـه آية تدل عـلى أنه واحد
ولكن الجزيئات تسبق إلى الأذهان وتفهمها القلوب ويحصل بها النفع العاجل لسهولتها وبساطتها وكونها تدرك بالبديهة، فلنذكر أمثلة وحكايات من هذا النوع للمتقدمين ولأهل هذا العصر.
سئل بعضهم بم عرفت ربك؟ فقال: إن البعرة تدل على البعير وآثار السير تدل على المسير، فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج، ألا تدل على اللطيف الخبير؟.
واجتمع طائفة من الملاحدة ببعض أهل العلم أظنه أبي حنيفة قالوا له: ما الدلالة على وجود الصانع؟ فقال لهم دعوني فخاطري مشغول بأمر غريب قالوا له ما هو؟ قال: بلغني أن في دجلة سفينة عظيمة مملوءة من أصناف الأمتعة العجيبة، وهي ذاهبة وراجعة من غير أحد يحركها ولا يقوم عليها فقالوا له أمجنون أنت؟ قال: وما ذاك؟ قالوا: إن هذا لا يصدقه عاقل. فقال لهم: صدقت عقولكم أن هذا العالم بما فيه من الأنواع والأصناف والحوادث العجيبة وهذا الفلك الدوار السيار يجري، وتحدث هذه الحوادث بغير محدث وتتحرك هذه المتحركات بغير محرك؟ فرجعوا على أنفسهم بالملام.
وقيل لبعضهم: بم عرفت ربك؟ فقال: هذه النطفة التي يلقيها الفحل برحم الأنثى فيطورها الله من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى آخر أطوارها فيكون بشراً سوياً كامل الأعضاء الظاهرة والباطنة، له سمع يسمع به المسموعات، وبصر يبصر به، وعقل يهتدي به إلى مصالحه، ويدان يبطش بهما؛ ورجلان يمشي بهما، وله منافذ يدخل فيها ما يغذي البدن وينفعه، ومنافذ أخر يخرج منها ما يضره، وقد ركب هذا التركيب العجيب الذي لو اجتمعت الخلق كلهم من أولهم إلى آخرهم على إيجاد شخص واحد على هذا الوصف المحكم الغريب لعجزت معارفهم وقدرهم على ذلك، أليس ذلك دليلاً وبرهاناً على وجود الخالق وعظمته وكبريائه قلت: وقد كرر الله هذه الآية في كتابه في أساليب متنوعة.
وقيل لبعضهم بم عرفت ربك؟ فقال: بنقض العزائم، ومعنى ذلك أن العبد يعزم عزماً مصمماً على أمر من الأمور وليس عنده فيه أدنى تردد، ثم بعد ذلك تنتقض همته وعزمه إلى أمر آخر قد يرى فيه مصلحته وما ذاك إلا لأن الله على كل شيء قدير، يصرف القلوب كما يدبر الأبدان وأنه لطيف بعبده فيصرفه عما يضره إلى ما ينفعه، ويدبر قلبه إلى ذلك.
وسئل بعضهم بم عرفت ربك؟ فقال: كنت مكروباً فدعوته ففرج كربتي، وكنت فقيراً فسألته فأغناني، وكنت مريضاً فدعوته فشفاني، وكنت ضالاً عن الهدى فلطف بي وهداني، وليس هذا الأمر لي وحدي فكم له على عباده من أصناف النعم المشاهدة المحسوسة، من هذه الأنواع شيء كثير وهذا يضطر إلى معرفته والاعتراف بربوبيته وتربيته.
وسئل آخر بم يُعرف الله؟ فقال: قد رأينا ورأى الناس في الدنيا مصارع البغاة المجرمين وعواقبهم الوخيمة، كما رأوا حسن عواقبه في المحسنين.
وقيل لآخر بم يُعرف الله؟ فقال: بإيصاله النعم إلى خلقه وقت الحاجة والضرورة إليها، هذا الغيث ينزله وقت الحاجة ويرفعه إذا خيف منه الضرر وهذا الفرج يأتي بعد الشدة، والمطالب بعد الاضطرار إليها، وهذه أعضاء الإنسان وقواه يعطيه الله إياها شيئاً فشيئاً بحسب حاجته إليها. فهل يمكن أن تكون هذه الأمور صدفة بغير اتفاق، أم يعلم بذلك علم اليقين أن الذي أعطاهم إياها وقت الحاجة والضرورة هو الرب المعبود الملك المقصود؟.
قلت ومن هذا الباب ما نحن فيه فإنه لما كانت معرفة الله يضطر إليها العباد ويحتاجونها في كل وقت فوق جميع الحاجات يسرها الله وفتح لعباده طرقها وأوضح لهم أدلتها، وليست حاجتهم إليها من الحوائج العارضة، وإنما هي من الحوائج الملازمة لهم في كل لحظة وساعة، فنسأله أن يمن علينا بعرفته وبالإيمان الكامل إنه جواد كريم.
وقيل لبعضهم بأي شيء يعرف الله؟ فقال: يعرف بأنه علم الإنسان ما لم يعلم، خرج من بطن أمه لا يعلم شيئاً، فأعطاه آلات العلم ويسر له أسباب العلم، فلم يزل يتعلم أمور دينه حتى صار عالماً ربانياً، ولم يزل يتعلم أمور دنياه حتى صار ماهراً مخترعاً للعجائب، ويسر له كل سبب يوصله إلى ذلك، ومن عجيب الأمر أن اللوح إذا كتب فيه وشغل بشيء من الأشياء لم يسع غيرها، ولم يمكن أن يكتب فيه شيء آخر قبل محو ما كتب فيه أو لا، وقلب الإنسان لا يزال يحفظ من العلوم والمعارف المتنوعة، وكلما توسعت معارفه قويت حافظته واشتدت ذاكرته وتوسعت أفكاره، فهل هذه الأمور في طوق البشر وقدرتهم؟ أم هذا أكبر برهان على عظمة الله ووحدانيته وكماله وسعة رحمته؟.
وقيل لبعضهم بم يعرف الله؟ فقال هذه النواة يغرسها الناس فيأتي منها النخيل والأشجار، وتخرج من الثمار العظيمة ما به ينتفع الخلق، وهذه الحبوب تلقى في الأرض فتخرج أصناف الزروع التي هي مادة أقوات العباد؛ ثم لا تزال تعاد وتغل كل عام أليس هذا أكبر برهان ودليل على وجود الله وقدرته وعنايته ورحمته.
قلت، وقد نبه الله على هذا المعنى الجليل في عدة آيات مثل قوله:"إِنَّ اللهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى" سورة الأنعام آية 95 ، "أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ" سورة الواقعة آية 63 – 64.
وقيل لمن بادر إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم لم فعلت ذلك؟ فقال: رأيته ما أمر بشيء فقال العقل ليته لم يأمر به، ولا نهى عن شيء فقال العقل ليته أمر به، فاستدل بنور عقله وقوة بصيرته على صدق الرسول بصلاح ما جاء به وموافقته للعقول السليمة وللحكمة.
وقيل لآخر من العارفين: بأي شيء يعرف الله؟ فقال: بذوق حلاوة الطاعات، وهذا استدلال برهاني وجداني يضطر العبد إلى كمال الإيمان واليقين، فإن من وجد حلاوة الإيمان وذاق لذة اليقين، فقد بلغ الذروة العليا من الإيمان والله أعلم.
وقيل لآخر بأي شيء يعرف الله؟ فقال: بانتظام الأسباب ثم بتحويله الأسباب ومنع مسبباتها، وبإيجاده الأشياء بغير أسباب يعقلها الخلق، وهذا صحيح فإنه أجرى الأمور على أسبابها ومسبباتها قدراً وشرعاً حكمة بالغة، ومنع بعض الأسباب من ترتب آثارها عليها، كما في معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء، وكذلك يوجد كثيراً من الأشياء بغير الأسباب المعهودة، كما أوجد عيسى من أم بلا أب، ويحيى بين أبوين لا يولد لمثلهما وأشياء كثيرة من هذا النوع ليعرف العباد أنه المتصرف التصرف المطلق وأنه كما يتصرف في الأشياء بأسباب مربوطة معلومة، كذلك يتصرف فيها بغير المعهودة، ولذلك كان جمهور هذا النوع من المعجزات والكرامات وهي كلها براهين على وحدانية الله وإلهيته وربوبيته.
وقيل لبعضهم بم يعرف الله؟ قال: من نظر في مواد الرزق وتأمل حالة من لهم موجودات وعقارات وغلات كثيرة ولكنهم قد اتكلوا عليها فضاقت عليهم الأمور وركبتهم الديون وجاءت الأمور على خلاف ما يؤملون، ثم انظر إلى أناس كثير ليس لهم عقارات ولا غلات؛ وإنما عندهم أسباب بسيطة قد بارك الله لهم وبسط لهم الرزق، وذلك بأن قلوبهم على الدوام متطلعة إلى ما عند الله، راجية منه تسهيل الرزق، متوكلين عليه حق التوكل؛ وبذلك يعرف الله، وبذلك يعلم أن الأمر كله لله، كما ننظر إلى القوي من الناس الذي جمع بين القوة والذكاء، وبين السعي الحثيث ورزقه مقتر، ونرى الضعيف البليد الذي ليس عنده من الذكاء والقوة عشر معشار ما عند الأول، والله قد بسط له الرزق ويسر له أمره، وهذه أمور مشاهدة محسوسة تضطر العاقل إلى الاعتراف بوحدانية الله وقيامه على كل نفس بما كسبت.
وقيل لآخر بأي شيء نعرف ربنا؟ فقال: بمداولته الأيام بين العباد في العز والذل، والغنى والفقر بأسباب وبغير أسباب.
وقيل لآخر بأي شيء يعرف الله؟ فقال: بقوله تعالى: "وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللهِ رِزْقُهَا" سورة هود آية 6 ، فننظر مصداقها بين الخليقة وأن كل أحد قد يسر الله له من أسباب الرزق ما به يعتاش، هذا بتجارته، وهذا بصناعته، وهذا بحراثته، وهذا بخدمته، وهذا بمخلفات من قبله، وهذا بتنميته للمواشي، وهذا بإحسان غيره عليه، وهذا بكد غيره. إلى آخر الأسباب التي قدرها العزيز الحكيم ونوعها العليم الرحيم، فسبحان من وصل رزقه إلى الذرات في مهامه البراري وقعور المظلمات.
قلت: وهذه الأجوبة كلها عن الكليات والجزئيات صحيحة تضطر العقول إلى الاعتراف بربها، وبوحدانيته ويمكن مضاعفتها إلى أضعاف أضعاف كثيرة، فإنك إذا نظرت نظرة عمومية إلى العالم العلوي والسفلي وعظيم هذه المخلوقات وانتظامها العجيب وترتيبها المحكم وما يترتب على ذلك وينتج عنه من مصالح العالم أو المخلوقات، علمت أن لهذا العالم رباً عظيماً وملكاً كبيراً قادراً مقتدراً قد خضعت له الأكوان ودانت له الخليقة، وأخذ بنواصي العباد وعلمت أن هذه النيرات وما يتبعها مدبرات ليس لها من الأمر شيء، وإنما هي عبيد لله مسخرات بتسخيره مدبرات بتدبيره. ثم إذا نظرت لكل مخلوق على حدته وتأملت في ابتداء خلقته وفي بقية صفاته وأحواله وتنقلاته، دلك ذلك على أن لها إلهاً مدبراً ورباً متصرفاً، وأن جميع ما هو عليه من الوجود والصفات ليس من نفسه، ولا من إيجاده، وإنما ذلك خلق رب عظيم وتدبير ملك حكيم.
ثم إذا تأملت في أحوال نفسك، وفي صفات بدنك الظاهرة والباطنة وفي محسوساتك ومعقولاتك علمت بلا ريب أنك مخلوق، عبد فقير إلى ربك في كل أمورك، فقير إليه في الإيجاد، وفقير إليه في الإمداد بالقوى والعقل والأرزاق، وفقير إليه في حفظك وبقائك، وفقير إليه في ابتدائك وانتهائك.
ثم إذا نظرت في خوارق العادات وفي معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء التي لا يحصي عددها العادون، علمت بذلك عظمة الباري، وأنه مقدر الأمور ومسبب الأسباب ورب كل شيء ومليكه، وكذلك إذا نظرت كثرة إجابته للدعاين، وكشفه الضر عن المضطرين، وإغاثته للملهوفين وهي وقائع كثيرة لا حصر لها، اضطرك الأمر إلى الاعتراف بالربوبية والوحدانية.
ثم إذا نظرت إلى أيامه في الناس، وقيامه بالعدل والفضل وتعجيله ثواب المحسنين وعقوبات المجرمين؛ علمت أنها براهين محسوسة وأدلة مشاهدة، تشهد لله بأنه قائم على كل نفس بما كسبت، مجاز كل عامل بعمله.
ثم إذا نظرت في دينه وشرعه وما فيه من الخير العظيم والمصالح الظاهرة والثمرات الجليلة، وأنه مصلح للعقائد مصلح للأخلاق، مصلح للأعمال مصلح للدنيا والدين، محكم الأصول ثابت القواعد، لا يمكن عقلاء الأمم أجمعين أن يأتوا بمثله في إصلاح أحوال البشر ودفع الشرور عنهم، وأنه لم يأت ولن يأتي علم صحيح يناقض شيئاً من أخباره، بل كلها مطابقة للعقول وفيها تفصيلات لا تهتدي إليها العقول إلا بإرشاده وهدايته، وشاهدت أحكامه في العبادات والمعاملات وغيرها، وما فيها من الخير والعدل والصلاح المتنوع؛ وشاهدت كل نفع وإصلاح وجد ويوجد موجودة أصوله وأسسه في هذا الدين، وعلمت أنه عصمة للبشر عن الشرور والمضار عرفت بذلك وحدانية الله في أسمائه وصفاته وأفعاله، وأنه شرع العزيز الحميد، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.
وإذا علمت أخباراً كثيرة أخبر بها الله ورسوله، فشاهد الخلق وقوعها جهراً طبق خبر الله وخبر رسوله، دلك ذلك على الاعتراف بالله وعظمته وكمال سلطانه وكبريائه.
فهذه كلها أدلة عقلية ضرورية، وهي براهين قاطعة على وجود الله ووجوبه ووحدانيته؛ وهي في الحقيقة أعظم الحقائق الصحيحة التي تتفق عليها العقول الصحيحة والفطر السليمة، وكلها تنبيهات وإشارات لو بسطت بعض البسط لبلغت مجلدات، والمؤمن يزداد بها إيماناً ويقيناً، وإلا فهو مكتف غاية الاكتفاء ومستغن غاية الاستغناء في هذه المسألة الكبيرة وغيرها بخبر الله ورسوله، ويعتقد بلا ريب أنه لا أصدق من الله قيلاً، ولا أصدق من الله حديثاً، "رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا" سورة آل عمران من آية 193. "رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ" سورة آل عمران آية 53.
ولكن العقل مؤيد للشرع ومعترف بكمال الشرع وهدايته وأنه مضطر إلى الشرع ومكتمل بإرشاداته، ومهتد بأنواره، فالعقول لا تستنير ولا تستقيم حق الاستقامة إلا بالدين والشرع، ولهذا يكثر تعالى من قوله: "لآَيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ" ويأمر بالتفكر والتدبر لآياته المسموعة وآياته المشهودة والله أعلم([1]).